مراتع


عندما أقف فوق رأس ونة وأمد بصري من وادي بالدود إلى وادي العين لا تخطئ عيني شئ، لان لي مع كل حجر حكاية ومع كل شجيرة قصة

اشتاق إلى هدير أمواجك وبياض رمالك،

أين تجد وطنا تحيَي فيه الأموات لأنك تعرفهم ويحيوك الأحياء لأنهم يعرفونك

من أراد ليبيا وأرادك بسوء قصمه الله
اعزائي مرحبا بكم


حكايات من مرسى لك



الحكاية الأولى....من 
هموم قرية ووطن وأمة

شهادتي أيها القراء في هذا الجزء من وطني مجروحة!! ولا يمكن أن أدعي أنها حيادية!! تختلط فيها الذكريات بالحنين إلى صبا ولّى، مع ما يشبه النعي لمرحلة عمر عشناها طولا وعرضا في تلك الأودية وعلى هاتيك الشواطئ و فوق تلك الرمال، شبعنا من كرموسها وعنبها ومن بطيخها وقاوينها، تعذبنا في حصاد شعيرها ودرسه وتورمت أرجلنا في الركض خلف الضان والماعز، ومرت الساعات الطويلة ونحن ننتظر بفارغ الصبر امتلاء قفاف الطماطم (الصغير الحجم)، كما صفعت وجوهنا رياح القبلي الحارة وامتلأت أفواهنا وأذاننا وأنوفنا بترابه المتطاير.

 تمتعنا بأيام صحوة حلوة، وشمس الأصيل تنعكس فوق مياه البحر راسمة الف لوحة، ونحن متمددين على الرمال الذهبية في مقابلة الامواج الكسلى، ورؤوسنا الصغيرة تعج بالأحلام. سعدنا بصحبة وجوه غيبها الثرى، حكت لنا عن مرسى لك، طبيعة وإنسان، نقلت لنا تاريخنا الشفوي بكل أمانة، لننقله بدورنا إلى ابناءنا، لكننا وأسفاه، خيبنا أملهم فأطفالنا شبوا بعيدا عن تلك الوهاد، وهم لا يعرفون شيئا عنها، وصرنا نردد بيننا وبين انفسنا تلك الحكايا كتعويذة نهرع اليها عندما يعضنا الحنين (ما أقسى أنيابه).

عندما كنت صغيرا كانت مرسى لّك تمتد بمساحة الوطن وتنتهي عند حدودها (التي رسمها خيالي) كل المسافات. وكان جيراننا يأخذون في نظري بعد الأمة. كانت الصراعات بينهم على الأراضي أو بسبب مشكلة ما يكتسي بعدا جيوبوليتيكيا هائلا تماما مثل الصراعات الدولية الكبرى.

 إذ ما الذي يعنيني غير هذا والوطن هو مرسى لك والعرب هم سكان مرسى لك والعالم بأسرة يتجسد في مرسى لّك. حتى مرفأ مرسى لّك (والذي اعتدت أن اقضي الصيف متنقلا بينه وبين الجزيرة القريبة) لم تكن تؤمه السفن، لذلك تعززت قناعاتي بان مرسى لّك هي نهاية العالم، وعشت طفولتي كلها على هذا الأساس.

 كنت ـ ولم أزل حتى الآن ـ أحيط بعض الأسماء بشئ من القداسة لأنها شكلت طائعة أو مجبرة وجدان وتاريخ مرسى لّك، فمجرد مرور اسم محمد بو عثمان، عبد الله  أو التاجر الشهير الحاج عوض  يجعل نوعا من القشعريرة تسري في جسدي، لأنها صورة صادقة لهذه القرية الوطن، لان هذه الأسماء ظلت محفورة في ذاكرة القرية الوطن ولان هذه الأسماء متحدة اتحادا أبديا بسيل من الذكريات تتوارد في شكل صورا ثابتة على الذاكرة. كم من الاحترام والتقدير والتقديس أكنه لهم لا لشئ إلا لأنهم استطاعوا بإطلالاتهم على مخيلتي بين الحين والأخر أن يحملوا معهم كل مرسى لك وكل الماضي حتى طعم رغيف أمي ورائحة المثنان المحترق لإعداده.

الحاج عوض جاب كل مرسى لك وما حولها، اتذكره (رحمه الله) على حماره، يتنقل بين السهوب والأودية من منزل الى آخر حاملا معه الاقمشة ولوازم النساء من زينة وبخور وحناء بالإضافة الى بعض صنوف المكسرات والحلويات. لقد كانت رؤية حمار الحاج عوض تبعث الحياة في تلك الاكواخ المعزولة عن الدنيا. كانت نساؤنا المدفونات تحت تراب العزلة والفقر والتقاليد ينتظرن بفارغ الصبر مرور الحاج عوض، اذ تأتي اليهن ببضائع من عوالم أخرى كما تنقل الاخبار من قرية الى أخرى في وقت كان الحاج عوض وحماره هو وسيلة  التواصل الوحيدة. من المشاهد القليلة التي اتذكرها في تلك الايام ان الحاج عوض جاء يوما عند العصر وسمعنا نهيق حماره فتحفزنا لرؤية ما يمكن ان يحمله، وفي تلك الفترة كان مذياع والدي قد تعطل، وعند وصول الحاج عوض رأى والدي ووالدتي ما معه من بضاعة، ووجد والدي مذياع كبير الحجم يربطه الحاج عوض مع الامتعة على الحمار يستخدمه للتسلية ويؤنسه في مسيراته اليومية، فطلب أبي المذياع للشراء، ولكن الحاج عوض قال انه ليس للبيع وعندما اصر والدي وافق الحاج عوض بعقلية التاجر وفك المذياع وأعطاه لوالدي، وقد بقى ذلك المذياع مع والدي فترة طويلة. عندما شاع استخدام السيارات تخلى الحاج عوض عن حماره واشترى سيارة واستمر بنفس النشاط يجوب القرى وفيا لكل زبائنه القدامى، توفي رحمه الله في طبرق عندما صدمته سيارة وهو يسير على رجليه في المدينة، بكاه كل اهل مرسى لك و جنزور والقرى المحيطة وذهبْتُ الى اهله وقدمت واجب العزاء.

 لا أكاد احتفظ بشيء يذكر من إقامتنا بالقرب من رأس ونة وتختلط تلك الأحداث بما ترويه أمي من ذكريات حول لمة الشاهى. ترتقي الذكريات الملموسة والتي تحظى بأرشيف لا باس به في ذاكرتي عندما قرر والدي ووالدتي أنني لابد أن التحق بالمدرسة، حينها كنت قد بلغت السابعة من عمري. لكن منزلنا المنعزل الموجود جنوب شرق رأس ونّة (طيب الله ثراها) شكل لهم عقبة كبيرة. حيث كان الشتاء يسبب جريان وادي الخبيري وفيضان البحر ويلتقي الماء العذب الفرات مع الماء المالح الأجاج لتتكون مستنقعات يصعب اجتيازها، إذ أن المدرسة كانت في الجانب الآخر من الوادي.

واتخذ والداي قرارهم العتيد وهو نقل السكن كلية إلى تجمع سكاني قريب، حيث يسهل من هناك الانتقال إلى المدرسة رفقة أبناء الجيران. حتى اليوم أقف إجلالا لذلك القرار الذي شكل نقلة في حياتي برمتها وأحاول إعادة تمثيل تلك الأحداث، لأنها لم تكن سهلة خصوصا إذا ما عشتها بمعطيات تلك الفترة. استأجر والدي احد معارفنا يملك جرارا ومقطورة بغرض النقل، ولا زالت إلى الآن بعض الصور الثابتة لعمليات النقل محفورة بالذاكرة. فهناك من المشاهد البسيطة التي لا تمثل أي شي لقارئ هذه الأوراق، لكنها بالنسبة لي تكتسي طعما ولونا ورائحة وتمسي لها نفسي كما قال فيكتور هيجو (جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد).

بنيت على عجل أولى الحجرات وانتقلنا إليها عصرا. كم كانت دهشتي عظيمة وانفعالي مفرطا عندما نزل الليل ونظرت مع النافذة ورأيت أضواء مصابيح الكيروسين الخافتة تشع بوهن(إذ لم تكن هناك كهرباء بعد) من أبواب البيوت المجاورة المتناثرة وعددها خمسة بيوت. لقد كان مشهدا لا يمكن وصفه إذ لأول مرة في حياتي أرى تجمعا بمثل هذا الحجم وهذا القرب. ما زالت فصول تلك الدهشة ماثلة أمامي بكل تفاصيلها حتى اليوم. لم تستطيع فيما بعد أضواء المصابيح الكهربائية الوهاجة في كل المدن العديدة القريبة والبعيدة التي تنقلت بينها أن تنسني تلك الليلة، بل واستطيع القول أن تلك الأضواء الخافتة لمصابيح الكيروسين خبت أمامها (في ذاكرتي) عديد الأضواء الوهاجة لعديد من المدن التالية في محطات حياتي، كبرت أو صغرت. أتذكر أنهم أرسلوني مع خالي إلى طبرق بغرض إحضار الصور اللازمة لملف المدرسة، وقد كانت رحلة ثقيلة على نفسي. نزلت من سيارة خالي وكان يسير أمامي وانأ خلفه، وكان يجب علينا عبور الطريق للوصول إلى الجانب الآخر من الشارع، وفي الطريق عبر خالي فوق شبكة حديدية (لا زال أمام ناظري الصندل الصيفي الذي كان يرتده)وعندما لحقت به ارتعدت فرائسي لأنني نظرت فيها فإذا هي سحيقة : ماذا لو انهارت الشبكة وسقطت في هذه الهوة ؟ وطار صوابي. كانت بداية لقائي بالمدينة مزعجة!

اليوم عندما أرى مدننا وهي عائمة في الشتاء أتمنى وجود مئات من بالوعات الصرف الصحي لأعبر فوقها برفقة خالي وانأ مطمئن بأننا لا نحتاج إلى قوارب للتنقل من شارع إلى آخر. لا أجد في الأرشيف سوى بعض المعاناة واختفت أي عملية توثيق لمدينة طبرق في تلك الرحلة لأسباب اجهلها واستغربها حتى الآن.

ترافق قدومنا الى المنزل الجديد مع بداية أعمال شق طريق معبد بواسطة شركة يونانية يربط مرسى لّك بالعالم. كنت فاغرا فمي وأنا أرى الآلات العجيبة بألوان وأحجام وأشكال مختلفة يديرها أناس شقر البشرة يرتدون سراويل فوق الركبة ويتبولون وهم واقفون!! صدمة التقنية كانت حقيقة اكبر مما أتحمل : آلات تحفر وأخرى تقلب التراب وأخرى عملاقة لحمل التراب وأخرى لدمك الأرض وغيرها لخلط الإسفلت و الاسمنت، وأصوات إنفجارات ضخمة ناتجة من شق الصخور بالديناميت!! كانت دهشتي العظيمة من دقة مواعيد تناول الطعام والبدء في العمل والتوقف عن العمل وكنت اندهش من كل ذلك حيث لم يكن للوقت عندي اي معنى فما زلت حتى ذلك الحين بمنجى من نير الوقت والساعة. وكم قدرت الآن حلاوة تلك الأيام خصوصا بعد أن أدمى رقبتي نير الساعة وشعرت أن اليوم ينتهي ولم ينجز بعد شئ من الأعمال المفترض انجازها. كثيرا ما كانت تراودني فكرة جنونية وتظل تنخر رأسي : هل بالإمكان توقيف الحياة عند لحظة معينة ننتشي بها لنرمي كل ما يليها في البحر. آه لو أمكن ذلك لتغير وجه البشرية بأسرها. لكننا (لا ادري هل نأسف أو نبتهج) سائرون وفق ناموس محدد وضعت كل تفاصيله العريضة بدقة، لا خيار لنا إلا السير ولا مجال للتوقف.

لا ادري إلى الآن من قام بتقديم ملفي إلى المدرسة، ولكن لا شك انه والدي، وفي اليوم الموعود تقرر أن اذهب إلى المدرسة. استغرب ذلك ولكن لا زالت تفاصيل ذلك اليوم مسجلة بشئ من الدقة في مخيلتي. كان جارنا يملك سيارة خيمة من نوع مازدا وكان ذلك بعد عيد الفطر سنة 1974. تجمع كل أبناء القرية وركبوا السيارة وركبت معنا حينذاك جدتي سالمة وانطلقت السيارة ولكن ليس للمدرسة بل إلى عيت متخطري حيث اكتشفت إن جارنا ينقل هذا الجمع إلى بئر الأشهب ليتقاضوا مرتباتهم الضمانية. وعند ذلك البيت وهو في جانب آخر من الوادي أنزلونا لنكمل الرحلة سيرا على الأرجل وكانت حوالي 4 كم. أعطتني والدتي في يومي الأول من مشواري الطويل 5 قروش لإفطاري، ولم تعطها لي وإنما أعطتها لفتاة من قريتنا كانت اكبر مني سنا خوفا أن أضيعها. وبعد نزولنا من السيارة ونحن في طريقنا إلى المدرسة انتابتني نوبة من البكاء والصراخ مطالبا بالخمسة قروش، وهرعت الفتاة المسكينة إلى إعطائي إياها وهدأ روعي. لا زالت حتى اليوم تذكرني بتلك القصة وابتسم مجاملة لها، لكنني اشعر بغصة في حلقي وصور جميلة من ذلك الزمن تتوارد على مخيلتي، ضاعت وكم أتمنى أن تعود.

 وصلت إلى المدرسة وقادوني إلى الطابور الصباحي وبدأت وكأنني خارج عن الوعي لان الأحداث توالت بسرعة وأقحمت في عوالم دفعة واحدة دون أي مقدمات. لا أنسى لحظة أن انتهى طابور الصباح وانطلقنا في صفوف إلى فصولنا، بدأنا في صعود الدرج وكانت السلالم والمباني الصحية شئ جديد بالنسبة لي،إذ كنا متعودين على مباني الصفيح و بيوت البدو المنسوجة من صوف الضأن وشعر الماعز وعند ولوجنا إلى داخل المدرسة شعرت بدوار (ليس ألما) ولكنة شعور غريب بأنك قد فقدت كل ما يربطك بالواقع وتكون على حافة التيه. دخلت فصل السنة الأولى. وبدأت مع صباح ذلك اليوم ومع إطلالة الأستاذ جمعة محمود مرحلة تحول عظيم في حياتي. بدأت فلول الظلام تتبدد رويدا رويدا أمام عود الطباشير الذي يلوح به الأستاذ جمعة بجانب سبورته السوداء. كان عود الطباشير ذاك أقوى من أي سلاح عرفته بعد ذلك في حياتي. إن الأمية هي اكبر ابتلاء يمكن يبتلي به أي شخص. بدأت أدرك شيئا فشيئا أن مرسى لّك ليست نهاية العالم.

بدخولي المدرسة امتد عالمي للضفة الشرقية من وادي الخبيري (احد أودية مرسى لك). بدأ الكون يتسع وبدت الوجوه تزداد من حولي. أخذت جغرافيا مرسى لك تتشكل من جديد. شخصيات جديدة وأبطال جدد سيطروا على تلك الحقبة : عبد المولى صاحب المقصف، جبريل عبد الونيس المباشر بالمدرسة وغيرهم من الزوار المنتظمين الذين امتزجوا بعالمي الجديد: جرس المدرسة، سجل الغياب يحمله يوميا وفي نفس الموعد الحاج جبريل، عبد الباسط عبد الصمد وقرآن الصباح، الأستاذ سعيد عبد القادر وطابور الصباح، جرس استراحة الإفطار، مطبخ المدرسين ورائحة الطهي المنبعثة منه....الخ. بتغيبي نصف نهار عن البيت كانت حشاشتي تستعر بألم الغربة لأول مرة. اذكر انني في الاستراحة كنت اصعد سلم المدرسة المؤدي إلى سطحها، ليس بغرض الصعود على السطح (لان ذلك كان محظورا) ولكن فقط لمترين او يزيد لأطل من هناك صوب بيتنا على الضفة الغربية للوادي، حتى تهدا نارا في داخلي. اكتشفت بعد سنين وعندما بعدت شقة الغربة ان ذلك كان الم الحنين للوطن او مرض الحنين للوطن كما تسميه اللغات المختلفة. كانت غربتي الأولى من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية لوادي الخبيري.

كان كل شئ في المدرسة جديد بالنسبة لي، وكان على ذاكرتي الصغيرة ان تتسع أكثر وأكثر لاستيعاب هذا العالم، من وجوه جديدة ومبان صحية لم أعهدها- إذ كنت قاطنا في بيت من الصفيح- وسلالم ودرج ودورات مياه وصوت الجرس، والإذاعة المدرسية، ومكبر الصوت المحمول، والكراسي والطاولات والسبورة والطباشير والكتب والأقلام! هل حقيقة كانت الحياة على الضفة الشرقية لوادي الخبيري مختلفة لهذا الحد عن الضفة الغربية. كيف كنت قابعا خلف هذا الوادي وضفته الأخرى تمور حضارة وحداثة! كانت هذه الاسئلة وغيرها تتزاحم على مخيلتي دون اجابات في الايام الأولى. بعد ربع قرن بالتمام والكمال قُدِّر لي ان اعبر المتوسط من جنوبه إلى شماله وبالقدر نفسه تزاحمت هذه الاسئلة على مخيلتي!

في الصف الاول الابتدائي اذكر بكل عرفان وجميل الاستاذ جمعة محمود اطال الله في عمره، وأذكر سيارته (بيجو خيمة) كانت في كل صباح تحتل نفس المكان، لدرجة اننا سئمنا من رؤيتها في ذلك المكان. بدا الاستاذ جمعة في صورة محارب، شاهرا سيفه مطاردا فلول الظلام، وبمصباحه الصغير يضئ طريق طويل ملتوي امام تلك العقول الصغيرة المحتشدة أمامه. كانت تلك اللحظات، لحظات رهيبة من تاريخ القدر في حياة هؤلاء الصغار المتكدسين في الفصل. اعتدت بعد عودتي من المدرسة ان أتناول الغداء (على بساطته) ثم اذهب مع اطفال الجيران لرعي الاغنام. كانت لحظات سعادة لا تقدر بثمن. كنا نجتمع ونلعب ونلهو دونما أي اعباء وفي العصر نقوم بجمع الحطب ونعد الشاهي ثم نخلطه بحليب الماعز وأحيانا الضأن. كم كانت لذة تلك الوجبة عظيمة. وعند الغروب نقفل راجعين إلى البيت لنتعشى ثم ننام وننهض باكرا إلى المدرسة ويتكرر البرنامج مرة اخرى.

احببت المدرسة. وربما كان ذلك عاملا مهما في حياتي. وأول شئ يحبب التلميذ في المدرسة أداؤه لواجباته المدرسية بانتظام. وكنت أؤديها بانتظام. لذلك بدأت علاقتي بالمدرسة علاقة محبة. نظمت المدرسة رحلتان إلى شاطئ البحر مع غداء كامل مرتين في الصف الاول والثاني ثم انقطعت للأسف في كل ما تلاها من سنوات.

 تحفل مخيلتي بمشاعر جياشة عن الرحلتين والعديد من الصور الثابتة. تفوقت في سنين دراستي الأولى. حدث شيئان عكرا صفوي في تلك السنوات. الأولى أن أبي وأمي ذهبا إلى (مشعوذ) من المنطقة – وقد كانت هذه الممارسة في تلك الفترة سائدة- وطلبا منه ان يكتب لهم (حصنا) لي، وعندما رجعا ربطاه في خيط برقبتي وأمراني ألا انزعه مهما كانت الأسباب. ظل ذلك (الحصن) متدليا من رقبتي وجعلني مثارا لسخرية الأولاد و عانيت من ذلك اشد الآلام النفسية. ظللت اسيرا لذلك النير حتى حررني منه معلمي في الصف الرابع الذي اذكره بكل عرفان وشكر. طلب مني ان اخبر اهلي أنني يجب أن انزع هذا الحجاب (وكان يدعى كذلك) وفعلا انصاعوا لطلب المعلم ونزعوه.

 كان فضولي عظيما لمعرفة ماذا يحوي ذلك الشئ. لكنني كنت خائفا من والديَ لأنهما سيعاقبانني بشدة اذا عرفا ذلك. وبعد فترة وفي غفلة منهما حملت هذا الحصن وذهبت بعيدا عن البيت وفككته، وكم كانت الخياطة محكمة. وجدت ورقة بعرض حوالي 10 سم لكنها بطول حوالي متر ونصف مليئة بأشكال غريبة اذكر منها الان صورة عقرب وثعبان ونجمة داوود وبعض الاسماء الحسنى وكثير من الرموز التي لم افهم معناها.

كان للقرية أضرحة شيوخ معروفين يلوذ بهم السكان وقت الشدائد، فتنحر الذبائح وتذرف الدموع وتنهال التوسلات. وعند الضرورة ينام المصاب مع القبر داخل الغرفة حتى يقوم صاحب الضريح بتدبر امره في هدأه الليل بعيدا عن أعين الفضوليين. اذكر اننا تعرضنا لإحدى هذه الشدائد فقد مرضت جدتي ويبدو ان الخرف الشيخوخي أصابها فغم الامر على والدي وقرر ان هذا هو وقت (سيدي سليمان الطير) و لا احد سواه. اخذناها في سيارة واشترينا عنز وذهب معنا خالي مع أسرته. وجدنا خلقا كثر ولكن لحسن الحظ كانت غرفة الضريح شاغرة.

نُحِرت العنز وتعشينا عليها واخذوا جدتي (رحمها الله) ووضعت داخل الغرفة التي تأوي القبر وأغلق عليها الباب. وفي الصباح ذهبوا ليأتوا بها وكانت على نفس الحالة. صرح والدي عند عودتنا للبيت انه سمع مطاردة داخل الضريح، كان الشيخ غاضبا ويريد طردها، زفر والدي بحرقة وقال : عرفت عندئذ ان لا امل في شفائها. لقد كان للقرية مشعوذيها البارعين، يقضون كل الحوائج ويحلون كل المشاكل، لكنهم يمكن ان يقوموا بتحويل المريض إلى صاحب الضريح عند الضرورة.

بدأ يتسع العالم....كان صدمتي الاولى في المدرسة كبيرة....يشير معلمينا العظام..بأيدٍ غلاظ...إلى خرائط معلقة على حائط الفصل .....أكدت لي شكوك انتابتني بعد رحلتي الفريدة إلى طبرق...بأن... مرسى لك ليست نهاية العالم...


وسنواصل الحكاية......................